حارث سيلاديتش

 

haris2

الخطوط المتبدية على وجهه لا يمكنها سوى أن تفضح سيل الدموع التي كانت مجرى لها في يومٍ من الأيام على الدماء التي شهدتها هاتان العينان المتعبتان، كنت شفيت أو تجاوزت أو تراجعت أو كبرت أو نضجت على التقاط الصور مع الشخصيات المشهورة، هكذا خفتت كل رغباتي في ذلك رويدًا لكن هذه الصورة يالها من ابتسامة مخادعة لجميعنا.

حارث سيلاديتش، الاسم الأول عربي والثاني يدل على البلقان كان هنا لمؤتمر، خرج للمنبر وبدأ يتحدث العربية بهدوء واضعًا كل فعلٍ في مكانه الخاص به، مستشهدًا بآراء المفكرين على الجانبين، قال كلامًا لا يستطيع القادة العرب الأقحاح قوله، هذا الرجل كان الرئيس السابق للبوسنة، عاد لي هنا الحنين الطفولي القديم بهيئته الحكيمة، أريد أن أسمع له أكثر.

ذهبت إليه لأطلب منه لقاءً بسيطًا، توقعت أن يبتسم ويرحب، لم يبدي الكثير من الاهتمام ولا الابتسام وأخبرني نعم ولكن بعد أن ينتهي من لقاء آخر، جلسنا بهدوء وكنت أراقبه وهو يتحدث وأتذكر صديقه الذي يكاد يشبهه علي عزت بيجوفيتش، تساءلنا حول السياسة والدم والنسيان، والظلم والتنازل، أخبرني بأنه كان لابد من نسيان الدم الذي سال حتى لا نسيل المزيد، وأنه شاعر روحه مع الكتب لا في السياسة و وجوده فيها كان لسد فراغ وجودي وفكري.

كان يشرب قهوته المرة محاولًا موازنة مرارة الحديث، يبكي قلبه دون أن تبكي عيناه ، يحدثنا عن قصة القصيدة التي كتبها حول طفل فلسطيني يقف أمام جدار في غزة، يحدثنا عن العمل للقضية، عن اعتزال السياسة والتفرغ للعمل الثقافي والحواري فيه، يحدثنا عن الإنسان، ويقول ببساطة: نادوني حارث.

يقف حارث في المنتصف بين الداعين لإلغاء المنطقتين اللتين تتمتعان بحكم ذاتي داخل “البوسنة والهرسك” وهما “الفديرالية الكرواتية-المسلمة” و”جمهورية الصرب”، وهذا ما يعارضه صرب البوسنة بشدة، ويعارضه الكروات بهدوء.

أدركت بعد اللقاء أنني لم أعد أتأثر بسهولة ولكن حين أتأثر فإن ذلك يدخل لأعماقي حتى يهزني ويصحح المسار أو يثبتني عليه، تعلمت من الرئيس حارث النسيان وتعلمت من الشاعر حارث ألا أنسى أبدًا.

كنت مع صديقتي ميساء وكتبت عن اللقاء هنا كذلك.

 

لا تُحتَمل خفته

 زارني الكائن الذي لم أستطع تحمل خفته فقررت التخلص منه، رآني أحدهم أقرأ في الإسلام بين الشرق والغرب، أولئك الذين لا تعرفهم، النوع الجاذب من الغرباء تود أن تتحدث معهم للأبد، دون يعجبوا بك أو يطلبوا منك أي شيء ولا حتى معلومة تدلهم عليك كأنك سقطت من فراغ زمني لن يمر عليهم وعدت لتسحب إليه “وحدها العلاقة المجردة من العواطف، حيث لا يمكن لأحد الشريكين ادعاء حقوق على حياة الآخر وحريته، يمكنها أن تجلب السعادة للإثنين معا”.

 

– وأين الكتاب الذي كنت تقرئينه البارحة؟، تعجبني هذه الأسئلة بقدر محاولة إظهار عدم الاكتراث بها، الشارب البرتقالي جدًا، النظارة الأنيقة، العمر الذي لا يمكنك تخمينه، القميص الأزرق المغبر، البشرة الشاحبة التي تكاد تتماهى مع القميص، الحزن المهندَس، الهيئة التي لا تكون إلا لمهندس، حاولت أن أربطه بإحدى الشخصيات الكرتونية التي أحبها، أتذكر حين سافرت مرة للخارج وأنا صغيرة صرخت بأبي – أبوي شوف شكل الرجل مثل الرسوم المتحركة! كان أجنبيًا ضحك أبي وأدركت أن ما نحسبه خيالًا واقع لديهم.

– لمن كان ذلك الكتاب.

– كونديرا..

– واليوم بيغوفتش!؟

حاولت ألا أتورد خجلًا، وأكون جديةً وهذه مشكلة تواجهني ولم أعتدها مذ لم أعد أرتدي غطاء الوجه.

-كيف وجدت كونديرا؟

-رائع!..

هل يمكن أن يكون قد قرأه؟ “وحدها الصدفة يمكن أن تكون ذات مغزى. فما يحدث بالضرورة، ما هو متوقع ويتكرر يومياً يبقى شيئاً أبكماً. وحدها الصدفة ناطقة. نسعى لأن نقرأ فيها كما يقرأ الغجريون في الرسوم التي يخطها ثقل القهوة في مقر الفنجان إن حياتنا اليومية مفخخة بالصدف وتحديداً باللقاءات العرضية بين الناس والأحداث ، أي مانسميه المصادفات : والمصادفة هي لحظة يقع حدثان غير متوقعين في الوقت نفسه فيتلاقيان .في أغلب الأحيان تمر مصادفات كثيرة دون أن نلاحظها إطلاقاً”

-هل يمكن يا.. أن نجلس لم يبق شيء على المحاضرة، ما اسمكِ؟

– تعرفُ ماهو الكيتش؟

– تجاهلَ تجاهُلها وأكمل.. اسمي وحيد لكنني لست وحيدًا.

ضحكَت وهي تطوي شفتيها. “عندئذٍ أحس بحب لا يفسّر نحو هذه الفتاة التي كان يجهلها في الواقع. بدت له مثل طفلة وُضعت في سلة مطلية بالقطران وتُركت في النهر ليلتقطها عند ضفة سريره”

– ما أعرفه عن الكيتش أنه مركب يبحر ويتكسر سريًعا ولا يحمل الكثير من الأشخاص هو مركب يمكنه أن يكون احتياطيًا في سفن أكبر.”يدرك من قبل أن الاستعارات شيء خطير. لا يمكننا أن نمزح مع الاستعارات. فالحب قد يولد من استعارة واحدة”

– لا يا وحيد.. كونديرا يتحدث عن مفهوم الشيء الرديء بشكله الفني، العالم الآخر بشكله المعروف، المظلم المشرق، تصور أن تكون مهندسًا.

– لست كذلك.

– لذلك قلت تصور!، حسنًا تصور أنك كاتب، كاتب رديء، تكتب بشكل منمق له رائحة عطر سيئ تصف كلمات أفكارك بشكل مضحك ممل، لكنك في النهاية تحمل خلقًا.

-وهدفًا، لطالما أردت أن أكون كاتبًا، الآن أتمنى أن أكون كاتبًا رديئا ولكن “لا يمكن للإنسان أبدًا أن يدرك ماذا عليه أن يفعل، لأنه لا يملك إلا حياة واحدة، لا يسعه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة”

-أوه! حقًا حرام! لم يتحقق حلمك بعد؟ كم أحب لو كان.. لازال أمامك وقت لذلك و وقت أقل لذلك لو أردت أن تكون كاتبًا رديئًا.

-…. سكت حزنًا لشفقتها على حلمه ومحاولة تقبله رديئًا “إن كلمات الشفقة توحي عموماً بالارتياب، وهي تُعنى بشعور يعتبر أقل منزلة ولا علاقة له بالحب إطلاقاً. أن نحب أحداً شفقة””الحلم هو البرهان على أن التخيل وتصور ما ليس له وجود، هو إحدى الحاجات الأساسية للإنسان، وهنا يكمن أصل الخطر الخادع الكامن في الحلم، فلو أن الحلم ليس جميلا، لأمكننا نسيانه بسهولة .”

– ولكن الفكرة ليست هنا، الكيتش هذه الرداءة هي معنى الحياة عند كونديرا في روايته..

– لا تهمني محاولة تسمية الأشياء المعروفة يا آنسة، هناك من يحترف عملا يسترزق منه دون أخلاق وهناك من لا يملك سوى أخلاقه!

تفاجَأت لحدته كأنها تحسست موضع جرح شاخ بسخرية مراهقة.

– هل أنت آنسة؟

شعرت بخيبة أمل أمام غريب لا يعرف قواعد لعبة البوح في احتمال المرة الواحدة” “مرة واحدة لا تحسب أبدًا مرة واحدة هي أبدًا” “. أنت لا تستطيع العيش إلا حياة واحدة كأنك لم تعش البتة” “العالم الذي يكشف فيه أحدهم عن حياته الخاصة يفقد كل شيء”

– لماذا دافعت عن نفسك بهذا القلق؟ هل أنت غريب عوضًا عن كونك وحيد؟ وابتسمَت في محاولة العودة لمشهد النظارة الأنيقة والقميص الفاتح. “إن من يعيش في الغربة يمشي في فضاء فوق الأرض من غير شبكة الحماية التي ينصبها لكل كائن البلد الذي هو بلده .. حيث أسرته وزملاؤه وأصدقاؤه” لذا يكون مستعدًا لكره غير معروف وللطافة غير متوقعة.

– لستُ غريبًا.. معي أهلي..

– أقصد أن هذا ليس وطنك.

-ليس لي وطن، فقدنا بعضنا..

“في المقدمة الكذب المحسوس وفي الخلف الحقيقة التي لايدرك كنهها”

-كيف؟

– لم أستطع التخلص من محبة الحزب ذهبت لأنصح ردوا ” لا، لانريد منك نصيحة نريد توقيعك.. لم نكن عارفين! لقد خُدعنا كنا مؤمنين بالقضية! نحن أبرياء في قرارة قلوبنا! “

– هل ستعود؟ “لكي نتحاشى العذاب نلجأ في أكثر الأحيان إلى المستقبل. فنتصور أن ثمة فاصلًا ما على حلبة الزمن يتوقف بعد العذاب الحالي عن أن يكون موجودًا”

– إلى أين؟

– أعني.. “مالذي سيحدث لو أن هذا السفر انتهى؟ يمكن لنا أن نخون أهلاً وزوجًا وحبًا و وطنًا، لكن ما الذي يتبقى حين لا يعود هناك أهل لنخونهم أو زوج أو حب أو وطن؟”

– هل أنت غريبة؟

– بربك!؟ هل أبدو كذلك؟ هل تتمناه لي؟

“متأكد من أن أصل جميع أنواع الكذب يكمن في الفصل بين الحياة العامة والخاصة حيث يكون المرء شخصًا في حياته الخاصة وشخصًا آخر في حياته العامة فالعيش في الحقيقة هو إلغاء الفاصل بين العام والخاص”

– “لا ليس هذا تطيرًا ..إنما هو حس الجمال” الذي لا أجده إلا في غريب.

.. “حررها فجأة من قلقها وأمدها برغبة جديدة للعيش. مرة أخرى كانت عصافير الصدفة تحط فوق كتفيها”

– هل يمكن أن أستعير منك الرواية؟

-ألم تفعل.. ظننتك قرأتها !

أحضريها غدًا أرجوكِ..”

– قد لا آتي غدًا.. يمكنك أن تأخذ (الإسلام .. بين الشرق والغرب)..

“التاريخ خفيف بقدر ماهي الحياة الإنسانية خفيفة، خفيفة بشكل لا يطاق، خفيفة مثل الوبر، مثل غبار متطاير، مثل شيء سيختفي غدًا”

 

قصة ألفتها لتوظيف اقتباسات أعجبتني في الرواية مابين الـ ” ” لكوندير

أنتمي إليهم الآن، غدًا، وحتى بعد حين.

هناك أشخاص أعرفهم، أعرف مافيهم من أنصاف الأماني ورسائل لم تصل وحكايات حكوها لأنفسهم ليس لأنهم يرونها أثمن من أن تروى أو لأنهم يحاولون رسم الغموض على اللاشيء ولكنهم حين يروونها لا يستطيعون النظر في عينيك فيخافون عليها من ردة فعل فاتتهم وهي قطع قلبهم وسلواهم في التذكار زمنَ الوحدة والليالي الرطبة والوقفة الهادئة في المطبخ خلف حوض الغسيل أو أمام إبريق الشاي.

أعرفُ ما فيهم من تساؤل من خوف من قلق من رعشة الفؤاد الصغير الذي يخشى على شيء يحبه ولا يعرف ماهو ويخاف أن يكون من النوع الذي إن ذهب لن يعود، من عناوين كتب وأسماء مدن واختصارات ألقاب ترش الملح على جرح لا يستطيعون تطبيبه لأن أيديهم تكاد لا تصل إليه بالعلاج، أشخاص أدّعي حين أتأملهم أني أشبههم أو أشبه تلك اللحظة المتأملة فيهم، يعيشون كالناس ولا يعيشون، أضع أحلامي السرية فيهم فيهم.

نزعتهم الرسالية في: الدين، المبدأ، الحرية، الإنسانية، المرأة، الضحك، العفوية، الفزعة، الفرح اللامشروط، الشاي، القهوة، البحر، السماء، المطر، السفر، الحذاء الخفيف، الكتب، الموسيقى، الشعر، الصمت، الأناقة، اللوحات الجميلة..حياتهم وموتهم، منامهم وصحوهم لكل هذه الأشياء مجتمعة أو واحدًا منها على الأقل، يجعلني أنتمي إليهم الآن غدًا وحتى بعد حين.